من هو أبو محمد الجولاني: القائد الغامض الذي أعاد تشكيل خريطة الجهاد في سوريا
عندما وصلت قوات المعارضة السورية إلى مدينة حلب، عاصمة المحافظة التي تحمل الاسم ذاته، تداولت قنوات الاتصال التابعة للمعارضة صورًا لرجل ملتحٍ يرتدي زيًا عسكريًا ويقود العمليات الهجومية. كان هذا الرجل هو أبو محمد الجولاني، زعيم هيئة تحرير الشام.
مع تقدم قواته داخل المدينة، عاد الجولاني ليصبح محور نقاش وجدل واسع النطاق داخل سوريا وخارجها، خاصةً كونه يقود جماعة تصنفها دول غربية وإسلامية، بالإضافة إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، كمنظمة إرهابية.
على مدار العقد الماضي، برز الجولاني كأحد أكثر الشخصيات تأثيرا وجدلاً في الحرب الأهلية السورية. قاد زعيم هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا) تحولات كبيرة في مسار الجماعات الجهادية، حيث خاض صراعات عسكرية، وقام بتغيير ولاءاته الفكرية، وحاول إعادة تشكيل صورته أمام المجتمع الدولي. بينما يراه البعض قائداً براغماتياً يسعى لتثبيت نفوذه محلياً، يعتبره آخرون رمزًا للجماعات الإرهابية في المنطقة.
المولد والنشأة
تفاصيل نشأة الجولاني محاطة بالكثير من الغموض. وفقًا لتقارير مختلفة، ولد بين عامي 1975 و1982. في مقابلة مع شبكة PBS، أكد أن اسمه الحقيقي أحمد حسين الشرع، وأنه وُلد في الرياض بالسعودية لعائلة سورية تنتمي إلى منطقة الجولان. عاد مع أسرته إلى سوريا في أواخر الثمانينيات، حيث نشأ في حي المزة بدمشق. تشير تقارير أخرى إلى أنه ولد في دير الزور، ما يعكس تضارب المعلومات بشأن أصوله.
درس الجولاني الطب في دمشق، لكنه ترك الجامعة بعد عامين للانضمام إلى تنظيم القاعدة في العراق إثر الغزو الأمريكي عام 2003. هناك، انضم إلى صفوف التنظيم بقيادة أبو مصعب الزرقاوي، وأصبح لاحقًا أحد المقربين منه، مما ساعده على اكتساب خبرة في العمليات الجهادية وتخطيط الهجمات.
من العراق إلى سوريا: بداية المسيرة الجهادية
بدأ الجولاني مسيرته الجهادية مع تنظيم القاعدة في العراق، حيث شغل أدوارًا قيادية، منها الإشراف على عمليات في محافظة الموصل. في 2006، وبعد مقتل الزرقاوي، انتقل إلى لبنان وأشرف على تدريب جماعة "جند الشام". لكن سرعان ما عاد إلى العراق، حيث سُجن لفترة من الزمن في معسكر بوكا الشهير.
عقب إطلاق سراحه عام 2008، عاد الجولاني للعمل مع "الدولة الإسلامية في العراق"، التي أصبحت لاحقًا تنظيم "داعش". وفي 2011، مع تصاعد الثورة السورية، أرسله أبو بكر البغدادي إلى سوريا لتأسيس فرع محلي للتنظيم. وفي يناير 2012، أعلن الجولاني تأسيس "جبهة النصرة لأهل الشام"، التي سرعان ما أصبحت واحدة من أقوى الجماعات المعارضة للنظام السوري.
رفض الاندماج مع داعش
في عام 2013، أعلن البغدادي عن اندماج "دولة العراق الإسلامية" و"جبهة النصرة" تحت اسم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش). إلا أن الجولاني رفض هذا الإعلان وأعلن ولاءه لأيمن الظواهري، زعيم تنظيم القاعدة. أدى هذا الموقف إلى قتال بين النصرة وداعش، حيث احتدم الصراع بين الطرفين على النفوذ والمناطق في سوريا.
في يوليو 2016، أعلن الجولاني فك ارتباط جبهة النصرة بتنظيم القاعدة، وتغيير اسمها إلى "جبهة فتح الشام". وفي عام 2017، أسس هيئة تحرير الشام، التي ضمت عدة فصائل جهادية. هذا التحول أشار إلى محاولة الجولاني تقديم صورة أكثر براغماتية وتركيزًا على القضايا المحلية.
إعادة تشكيل صورة الجولاني: القائد البراغماتي
خلال السنوات الأخيرة، سعى الجولاني إلى إعادة تشكيل صورته كزعيم محلي يسعى لتحقيق الاستقرار في مناطق إدلب وشمال غرب سوريا. وفي مقابلة مع شبكة PBS عام 2021، أكد أنه تخلى عن أيديولوجيا القاعدة العالمية وركز جهوده على الإطاحة بنظام الأسد. كما صرح بأن تصنيف هيئة تحرير الشام كجماعة إرهابية أمر "غير عادل".
تحت قيادته، أقامت هيئة تحرير الشام إدارة مدنية تحت اسم "حكومة الإنقاذ"، التي تدير قطاعات مثل الصحة والتعليم والأمن الداخلي. ومع ذلك، اتُهمت الهيئة بانتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك قمع المظاهرات الشعبية وممارسة التعذيب ضد المعتقلين.

إدلب.. المعقل الأخير
تسيطر هيئة تحرير الشام على إدلب، التي تُعتبر المعقل الأخير للمعارضة السورية. تضم المنطقة نحو ثلاثة ملايين نازح، وتعد ذات أهمية استراتيجية بسبب قربها من الحدود التركية. أثبت الجولاني مهارته في إدارة التوازن بين العمليات العسكرية، والإدارة المدنية، والمفاوضات مع القوى الإقليمية والدولية.
على الرغم من محاولاته لتقديم هيئة تحرير الشام كبديل أكثر اعتدالاً، إلا أن الحكومات الغربية لا تزال تصنفه كإرهابي. الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تعرض مكافأة قدرها 10 ملايين دولار مقابل معلومات تؤدي إلى القبض عليه.
أيديولوجيا الجولاني.. من السلفية الجهادية إلى البراغماتية
على الرغم من خلفيته السلفية الجهادية وارتباطه بتنظيم القاعدة، حاول الجولاني التكيف مع المتغيرات على الأرض. خلال مقابلاته الإعلامية، أظهر رفضًا للتكفير العشوائي ودعا إلى التفاهم مع الفصائل الأخرى. إلا أن مراقبين يرون أن هذه التحولات كانت مدفوعة بالبراغماتية السياسية أكثر من كونها تغييرات أيديولوجية حقيقية.
يظل أبو محمد الجولاني شخصية مثيرة للجدل بين مؤيد ومعارض في ظل النزاع السوري. بينما يرى البعض في تحولاته محاولات للبقاء على قيد الحياة وسط تعقيدات المشهد السوري، يراه آخرون مثالاً على البراغماتية السياسية التي تسعى لتبرير الأيديولوجيا المتشددة. ورغم محاولاته لتغيير صورته.